السبت، 5 مايو 2012

حول دسترة الحق في التشغيل

صورة من حملة الشبكة حول تضمين حق التشغيل في الدستور
(المصدر: موقع الشبكة على الفايسبوك)
العديد من الجمعيات والأحزاب السياسية والشخصيات تدعو باستمرار لتضمين الحق في الشغل في الدستور الذي هو بصدد الإعداد. شبكة "دستورنا" هي إحدى هذه الفرق (التي لها شكل الجمعية نظريا بينما هي عمليا أقرب إلى الحزب السياسي - وهذا مجرّد تفصيل) التي تعمل باستمرار على التأثير على الرأي العام وبدرجة أولى نواب المجلس التأسيسي لأجل ذلك (انظر مثلا ألبوم صور من حملة الشبكة للترويج لدسترة حق التشغيل هنا). و لقائل أن يقول: وما العيب في ذلك فالعمل حق وواجب تعترف به كل الشرائع السماوية والوضعية؟

مبدئيا، من حق كل البشر العمل والكدّ والجدّ. والتونسيون كبشر لهم أيضا الحق في العمل. أما الصياغة الدستورية لهذا الحق البديهي فهي ما يؤرّقنا. فلو تمّ صياغة هذا الحق بشكل محايد يؤكد فقط على حق كل مواطن في ممارسة أية مهنة شرعية يريدها فذلك أمر مقبول. غير أنّ الأمر يبدو مختلفا عن ذلك جذريا! ففيما علمناه من الحملات التي يخوضها البعض هذه الأيام فإنّ هدفها دسترة حق المواطن في مطالبة الدولة بتوفير الشغل له! وهذا -لعمري- ينمّ عن عقلية رجعية قروسطية قد تجاوزها الزمن، لأن التعريف القانوني للدولة لا يتضمّن بأيّ شكل من الأشكال واجب توفيرها مواطن الشغل لمواطنيها بل واجب هؤلاء المواطنين هو البحث عن عمل بوسائلهم الخاصة، ومن ضمنها إطلاق المشاريع والانضمام للوظيفة العمومية إن كان بها مواطن عمل شاغرة، إلخ. وذلك رغم أنه من مصلحة الدولة أن يكون أكثر مواطنيها من الشغّالين والمساهمين في إنتاج الثروة التي سيعود جزء منها لخزينتها، على شكل رسوم وجباية وضرائب.
الدولة بماهي مجموعة من المؤسّسات والهياكل، تعنى بتوفير الخدمات الرئيسية للمواطنين كالدراسة والصحة والبنية التحتية والأمن والعدالة. ولا يدخل ضمن مهماتها توفير مصادر الدخل أو مواطن الشغل للناس. بل ثبت في عصرنا الحديث أنّ "الدولة إدارة سيئة" لذلك نشهد منذ عقود توجّه عديد الدول المتقدمة نحو تقليص حجم الوظائف العمومية وخوصصة جانب كبير من الخدمات التي تقدّمها لمواطنيها سواء عبر الاعتماد المفرط على الرقمنة والمكننة أو اللجوء المتزايد إلى خدمات الشركات والمؤسّسات الخاصة. وكل ذلك يهدف للرفع من جودة تلك الخدمات ومضاعفة فاعلية الأنظمة الحكومية وترشيد النفقات العمومية في زمن تواترات فيه الأزمات الاقتصادية وتراكمت فيه ديون الحكومات.


المصدر: موقع شبكة دستورنا على الفايسبوك
في رأينا المتواضع، نرى أن تضمين حق التشغيل في الدستور حسب الصيغة السابق نقدها خطأ جسيم سيضرّ حتما بمؤسّسات وهياكل الدولة. ففي دولة ديمقراطية يقوم نظامها على دستور وضعي، يمكن لكل مواطن الدفاع عن حقوقه المضمنة في ذلك الدستور بالتظلّم للقضاء. وذلك يعني أنّ المواطنين بإمكانهم اللجوء إلى المحاكم لإجبار الدولة على تشغيلهم. وبما أنّ إمكانيات تونس المادية والتقنية محدودة فمن المستحيل على أية حكومة تشغيل كل المواطنين سواء في القطاع العام أو بالاعتماد على دعم القطاع الخاص. فضلا على أنّ الوظيفة العمومية في تونس تشهد منذ عقود ازدحاما كبيرا بموظفين يتلقّون مرتبات دون أن تكون لهم قيمة مضافة تذكر، ومن العاجل الاستغناء على خدمات الكثير منهم كأحد الإجراءات المهمّة في أيّة خطة حكيمة للإصلاح الإداري.

وإننا نرى أنه من الأجدى مطالبة الدولة فقط بما يدخل في نطاق وظيفتها الأساسية. فمن حق المواطن على الدولة أن توفّر له أفضل تكوين معرفي وعلمي وتقني ممكن يكون له زادا وعونا مفيدا عند بحثه عن شغل. ويجدر بالدولة أيضا أن توفّر للمواطنين برامج دعم للوظيفة الحرة سواء عبر تقديم الخدمات الاستشارية لباعثي المشاريع أو بتوفير دعم مادي و/أو تقني يستفيد منه أصحاب المشاريع الواعدة. كما أنه من واجب الدولة أن تحرص على تكافؤ الفرص والحظوظ بين كل مواطنيها سواء في التعليم والتكوين أو النفاذ إلى الوظائف الشاغرة في القطاع العمومي أو في الحصول على دعم مادي، أدبي أو تقني للانتصاب للحساب الخاص. مثل هذه الضمانات تمثل قواعد أساسية يجب أن تتوفر في أيّ مجتمع ديمقراطي، عادل ومتضامن. لذا يجدر بهؤلاء الذين يطالبون بدسترة الحق في التشغيل المطالبة عوضا عن ذلك بتضمين هذه القواعد في الدستور الجديد، وذلك لتوفير الركائز الأساسية الضامنة لخلق الوظائف عبر تشجيع المواطنين على اكتساب المعارف والتسلّح بالأسباب المادية والأدبية اللازمة لبناء الثروة بالعمل والكدّ والإبداع.

وإننا نرى هؤلاء الداعين لجبر الدولة بقوة القانون على تشغيل الناس يفرضون في الواقع عقلية رجعية كانت أحد أسباب تخلّفنا خلال عقود طويلة، وخلاصتها اعتبار "الدولة بقرة حلوب تدرّ خيراتها على مواطنيها"، بل يجرؤ بعضهم على إقحام اعتبارات جهوية أو فئوية أو طبقية عند تعامله مع الدولة واعتبارها بانتهازية مقيتة كعكعة قابلة للتقسيم وجب الإسراع باختطاف أجزاء منها. لكن قليلون يعترفون بأنّ على المواطن واجب دفع حصّته من الظرائب والرسوم كي تتمكن الدولة من القيام بوظائفها الأساسية وأنه من دون ذلك تصبح خزينتها خاوية على عروشها فلا تقدر على تقديم الخدمات المناطة بعهدتها وكثيرا ما تضطرّ للتداين من جهات خارجية بفوائض جدّ عالية. لقد حان الوقت لتغيير نمط التفكير! فالعقل والحكمة هما الحلّ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق